فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر‏}‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روى عن الحسن‏.‏ ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم‏:‏ ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ومن قال‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏ إلى غير ذلك مما حكى عنهم، وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازاً كما هو ديدن كلهم‏.‏ وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازاً أيضاً عن الاستعجال استهزاء‏.‏

‏{‏دُعَاءهُ‏}‏ أي دعاء كدعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال‏:‏ مثل دعائه ‏{‏بالخير‏}‏ المذكور فرضاً لا تحقيقاً فإنه بمعزل عن الدعاء به، وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله‏.‏

‏{‏وَكَانَ الإنسان‏}‏ أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده ‏{‏عَجُولاً‏}‏ يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعامياً عن ضرره أو مبالغاً في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به، وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولة على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال، والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولاً ضجراً لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه‏.‏

أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها باسير وقال لها‏:‏ احتفظي به قالت‏:‏ فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقلت‏:‏ والله لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال‏:‏ قطع الله يدك ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه ثم دخل علي فرآني وأنا أقرب يدي فقال‏:‏ ما لك‏؟‏ قلت‏:‏ انتظر دعوتك فرفع يديه وقال‏:‏ اللهم إنما أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهراً»

أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيراً وكان عجولاً غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه اه مع بعض زيادة وتغيير‏.‏

واختار إرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصية سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرآن يهدى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ الخ ثم عطف عليه ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ الخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا، وأما اتصال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان‏}‏ الخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمة قائلاً ‏{‏اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الخ‏.‏

ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد إن وصف القرآن بما وصف ذم قريشاً بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقاً، وفي «الكشف» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان‏}‏ الخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقاً وكل ما ذكروه في ذلك متقارب‏.‏

ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال خلاف المتبادر كما لا يخفى، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن سليمان الفارسي قال‏:‏ أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه، فلما كان بعد العصر قال‏:‏ يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏، وروى نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلاً إليها فسقط، ووجه ارتباط ‏{‏وَكَانَ الإنسان‏}‏ الخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لضجره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييلي وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم أن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء، وقيل‏:‏ إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير، وقيل‏:‏ إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين مخالفين للظاهر لا يعول عليهما، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في بعض الأخبار‏.‏

فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر عن قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدعو على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعو على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم» وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلاً من الله تعالى وكرماً‏.‏ واستشكل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طوراً وزكاة وقربة» وذكر النووي في جواب ما يقال‏:‏ إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجاً عن حكم الشرع، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك، وقد يستدل على ذلك بإمارات شرعية وهو مأمور صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وقيل‏:‏ إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامهما بلا نية كتربت يمينك وعقري حلقي لكن خاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحاته وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل، ثم إن القياس إثبات الواو في ‏{‏يَدُعُّ‏}‏ الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما يمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات‏.‏

وذكر الإمام في وجه الربط وجوهاً، الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا‏}‏ الخ، وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل، الثاني أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين أن كل أحوال العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد، الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى، وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة، ومما يزيد تقديم الليل حسناً افتتاح السورة بقوله سبحانه ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ والجعل على ما نقل عن السمين بمعني التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعدلوا حد و‏{‏ءايَتَيْنِ‏}‏ حال مقدرة‏.‏

واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى أخرى وليس كذلك، ودفع بأنه من باب ضيق فم الركية وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان، والمعنى جعلنا الملوين بهيآتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلال على أن لهما صانعاً حكيماً قادراً عليماً ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد‏.‏

‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو أربع نسوة أي محونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسة مظلماً لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف‏.‏

وروي عن مجاهد وهو على نحو ضيق فم الركية والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته، وقيل معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء، ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك ولا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة‏.‏

وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة فإن محو الليل في مقابلة جعل النهار مبصراً، وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده، وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طارىء فكون الليل مخلوقاً مطموس الضوء مفروغ عنه فالمراد بيان أن الله تعالى خلق الزمان ليلاً مظلماً ثم جعل بعضه نهاراً باحداث الاشراق لفائدة ذكرها سبحانه، وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئاً لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئاً اه ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار‏}‏ أي الآية التي هي النهار ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ أي مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في نهاره صائم والمراد يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي أي جعله مبصراً ناظراً والإسناد إلى النهار مجازي أيضاً من الإسناد إلى السبب العادي والفاعل الحقيقي هو الله تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعاف الرجل إذا كانت دوابه ضعافاً وأجبن إذا كان أهله جبناء فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء‏.‏

وروى ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي‏.‏ وقرأ قتادة‏.‏ وعلى بن الحسين رضي الله عنهما ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ بفتح الميم والصاد وهو مصدر أقيم مقام غيره وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كارض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لامية وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس ويحتاج حينئذ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل جعل متعدياً إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول وآيتين الثاني، فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصباً على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعدياً لواحد والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون، ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت، فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عباس في الآية إنه قال كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحى فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن عكرمة أنه قال‏:‏ خلق الله تعالى نور الشمس سبعين جزأ ونور القمر سبعين جزأ فمحى من نور القمر تسعة وستين جزأ فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال‏:‏ كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة‏.‏

وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال‏:‏ كانا شمسين وقال قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ فالسواد الذي رأيت هو المحو، وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعاً «أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فارسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏» الآية إلى غير ذلك من الآثار، والفاء على هذا للتعقيب، وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر، وقيل محو القمر اما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئاً فشيئاً بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب، وذكر الإمام في محوه قولين، احدهما نقص نوره قليلاً قليلاً إلى المحاق، وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال‏:‏ حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نورة القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم، وأيضاً بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه ‏{‏وَلِتَعْلَمُواْ‏}‏ الخ اه‏.‏

وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعي أن غيره أولى، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة، وللفلاسفة في هذا المحو المرئى في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبراً فنقول‏:‏ ذكر الإمام في المباحث المشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عند فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوعاشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل، أما أولاً فلأن الأشباح لا تنحفظ هيآتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك، وأما ثانياً فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل، وأما ثالثاً فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لأشباحها المرئية في المرآة‏.‏

وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصرياً أو سماوياً والأول باطل، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين، وأما ثانياً فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفاً ولا ناراً صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركباً إما بخاراً وإما دخاناً وذلك لا يكون مستمراً، وأما إن كان الساتر سماوياً فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جداً من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء أو لها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة، وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساوياً لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه‏.‏

وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال‏:‏ إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار، أما أولاً فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد المتوالية مكذبة لذلك، وأيضاً القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في ذلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعاً لحركة الكل فبطل ما قالوه اه‏.‏

وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال‏:‏ إن ما يرى خيال لا حقيقة له، ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه؛ ومنهم من قال‏:‏ إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس، ورده بأنه لو كان كذلك لما رؤي متفرقاً، ومنهم من قال‏:‏ إنه وجه القمر فإنه مصور بصوة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم، ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلاً عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنفس الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك، وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه‏.‏

وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكن في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلاً على ذلك‏.‏

ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضاً جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر‏.‏

وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله، وقيل لفظ جميل، وقيل غير ذلك وأن المحو المرئى هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك، نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا الله وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى‏.‏

ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم وأن المواضع التي لا يرى فيها محوهي البحار والتي فيها محوهى أرضي غير مستوية وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك ومن هنا قالوا لا يبعد أن يكون معموراً بخلائق نحو عمارة الأرض بل قالوا‏:‏ إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياساً عليه وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساماً عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفناً زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسئين، وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئاً في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه وأي مانع من أن يكون قد جعل الله تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال‏:‏ قد جعل الله تعالى في القمر أجراماً تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق صلى الله عليه وسلم وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض الخ يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معموراً بالخلائق كالأرض أيضاً فإنه أوسع منها بأضعاف مضاعفة وهم لا يقولون به على انا نقول قد جاء «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكة يعبدون الله تعالى بما شاء وكيف شاء بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك وهذا نوع من العمارة بالخلق، والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها والله سبحانه الموفق، ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئاً فشيئاً فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه، وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال‏:‏ ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم والله تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها، وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الاجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف، وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها وما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزاً في فلكه دائراً على مركز نفسه وأحد وجهيه نير والآخر مظلم كما كان بعض أجزاء الفلك شفافاً وبعضها نيراً وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيراً من الشمس اه‏.‏

وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قرباً وبعداً لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة‏.‏

وأجيب بأنه ما المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم والله تعالى أعلم وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء ‏{‏لّتَبْتَغُواْ‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار‏}‏ وفي الكلام مقدر أي جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه‏.‏

‏{‏فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي رزقاً إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً دلالة كما قال شيخ الإسلام‏:‏ على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الاعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلاً بحكم الربوبية، ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه، وفي الخبر يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك، ولله تعالى در القائل‏:‏

لقد علمت وما الاشراف من خلقي *** أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه فيعييني تطلبه *** ولو قعدت أتاني لا يعنيني

‏{‏وَلِتَعْلَمُواْ‏}‏ متعلق كما قيل بكلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهام فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مداراً للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتاً من حيث الاظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما ‏{‏عَدَدَ السنين‏}‏ التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية ‏{‏والحساب‏}‏ أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحد منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏لّتَعْلَمُواْ‏}‏ باختلافهما وتعاقبهما على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين الخ المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالإجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك؛ وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالباً أو بالقمر لقوله تعالى في الأهلة

‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه، وكون الشرع معولاً على أحدهما لا يضر، وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولاً وجوداً وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنن من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلاً أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديراً بالتقديم في مقام الامتنان أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعدد إحصائه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين مما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف أضيف إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر‏.‏

‏{‏وَكُلَّ شىْء‏}‏ تفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً‏}‏ وهذا من باب الاشتغال ورجح النصب لتقديم جملة فعلية، وجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏الحساب‏}‏ وجملة ‏{‏فَصَّلْنَاهُ‏}‏ وهذا من باب الاشتغال ورجح النصب لتقدم جملة فعلية، وجوز أن يكون معطوفاً فاعلى ‏{‏الحساب‏}‏ وجملة ‏{‏فَصَّلْنَاهُ‏}‏ صفة شيء، وهو بعيد معنى‏.‏

والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمردا به الابانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد‏.‏ فالمعنى بينا كل شيء، وهو بعيد معنى‏.‏

والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمراد به الإبانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد‏.‏ فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بياناً بليغا لا التباس معه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏ فظهر كونه هادياً للتي هي أقوم ظهوراً بينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلَّ إنسان‏}‏ منصوب على حد ‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ أي وألزمنا كل إنسان مكلف ‏{‏ألزمناه طَئِرَهُ‏}‏ أي عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خيراً كان أو شراً كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير وبسمونه زجراً فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحاً بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحاً بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيراً فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر‏.‏

ومنه طائر الله تعالى لا طائرك أي قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضاً وسائر حيوانات الفلا وسمواكل ذلك تطيراً كما في البحر، وتفسيره بالعمل هنا مروى عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم‏:‏ طار إليه سهم كذا، ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل ‏{‏فِى عُنُقِهِ‏}‏ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله‏:‏ إن لي حاجة إليك فقال‏:‏ بين أذني وعاتقي ما تريد؛ وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأصواق أو شائن كالاغلال والأوهاق ولأنه العضو الذي يبقى مشكوفاً يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم‏.‏ فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوماً وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوماً أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوماً وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوماً وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول‏:‏ يا رب أصور أزائد أن ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوى أم غير سوى فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول‏:‏ أي رب أشقى أم سعيد‏؟‏ فإن كان سعيداً نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقياً نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك‏:‏ يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول‏:‏ سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه»

فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏‏.‏

ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحاً، وباب المجاز واسع، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله، والظاهر منه أيضاً عدم تقييد الإنسان بالمكلف، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية‏:‏ ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وآخر الآية ظاهر في التقييد‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ والحسن وأبو رجاء ‏{‏طيره‏}‏ وقرىء ‏{‏فِى عُنُقِهِ‏}‏ بسكون النون ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة‏}‏ والبعث للحساب ‏{‏كتابا‏}‏ هي صحيفة عمله، ونصبه على أنه مفعول ‏{‏نُخْرِجُ‏}‏ وجوز أن يكون حالاً من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتاباً‏.‏ ويعضد ذلك قراءة يعقوب‏.‏ ومجاهد، وابن محيض ‏{‏وَيُخْرِجْ‏}‏ بالياء مبينياً للفاعل من خرج يخرج ونصب ‏{‏كتابا‏}‏ فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتاباً حال منه والأصل توافق القراءتين، وكذا قراءة أبي جعفر ‏{‏وَيُخْرِجْ‏}‏ بالياء مبنياً للمفعول من أخرج ونصب ‏{‏كتابا‏}‏ أيضاً، ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميراً مستتراً هو ضمير الطائر وقد كان مفعولاً، واحتمال أن يكون ‏{‏لَهُ‏}‏ نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمت ما يكون كتاباً حالاً منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل، وعنه أيضاً أنه قرىء ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ بالبناء للمفعول أيضاً ورفع دكتاب‏}‏ على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن ‏{‏‏}‏ على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ بالبناء للفاعل من الخروج ورفع ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ على الفاعلية، وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة‏.‏

وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا‏}‏ ‏{‏يلقياه‏}‏ أي يلقي الإنسان أو يلقاه الإنسان ‏{‏يلقاه مَنْشُوراً‏}‏ غير مطوى لتمكن قراءته، وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيء له غير مغفول عنه، وجملة ‏{‏يلقاه‏}‏ صفة كتاباً و‏{‏مَنْشُوراً‏}‏ حال من ضميره، وجوز أن يكونا صفتين له، وفيه تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر‏.‏

وأبو جعفر والجحدري‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏يلقاه‏}‏ بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقي الإنسان إياه‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال‏:‏ يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ بتقدير يقال له ذلك، وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة، والظاهر أن جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ من جملة مقول القول المقدر، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء اسقاطها ورفع الاسم كما في قوله‏:‏

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً *** وقوله‏:‏

ويخبرني عن غائب المرء هديه *** كفى الهدى عما غيب المرء مخبراً

ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضاً وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في «البحر» الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء الزائدة، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل هو اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضى الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس‏.‏

ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى أن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في مربهند وقيل غير ذلك، و‏{‏اليوم‏}‏ ظرف لكفى و‏{‏حَسِيباً‏}‏ تمييز كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏ وقولهم‏:‏ لله تعالى دره فارساً، وقيل‏:‏ حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدى بعلي لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلي كما تقول عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدى بعلي كما يعدى الشهيد، وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدى تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد علي، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلاً حسيباً أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيباً عليك‏.‏

وجعل بعضهم في ذلك تجريداً فقيل‏:‏ إنه غلط فاحش‏.‏ وتعقب بأن فيه بحثاً فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريداً لكنه لا يتعلق به غرض هنا‏.‏

وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر‏.‏

وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال‏:‏ يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول‏:‏ رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ‏}‏ الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روى عن قتادة من لم يكن قارئاً في الدنيا‏.‏

وجاء أن المؤمن يقرأ أولاً سيآته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيآت وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيآتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نوراً وينقلب إلى أهله مسروراً ويقول ‏{‏هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏

وأما الكافر فيقرأ أولاً حسناته وسيآته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيآته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول ‏{‏ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25، 26‏]‏ جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه؛ هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيراً أو شراً يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضاً، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين، ومن هنا قال الإمام‏:‏ إن الحق أن الأحوال الظاهر التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضاً والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهراً غير ظاهر، وقال الخفاجي‏:‏ ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روى عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئاً ولا وجه لعده مؤيداً له، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضاً ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف والله تعالى أعلم بحقائق الأمور‏.‏

وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام‏.‏

الأول‏:‏ أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكوراً وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه، الثاني‏:‏ أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعماً عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسئولاً عن أقواله وأعماله، الثالث‏:‏ أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سيألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه، وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تباع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدى ومن أعرض عنه فقد غوى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ‏}‏ فذلكة لما تقدم من كون القرآن هادياً للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ عما يهتديه إليه ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم‏.‏

وروى عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال‏:‏ افكروا بمحد صلى الله عليه وسلم وعلى أوزاركم، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 85‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة واليئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين ومايحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله تعالى عنها في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية‏.‏

وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال، وقيل‏:‏ المراد بالميت المحتضر مجازاً وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي أن المحتضر يتأمل ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا، ولهذا أيضاً منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لمافيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطىء نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح، نعم أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت‏:‏

‏"‏ سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال‏:‏ هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال‏:‏ الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال‏:‏ هم على الفطرة أو قال في الجنة ‏"‏ والمسألة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون‏:‏ هم في النار تبعاً لآبائهم واستدل لذلك بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضاً قالت ‏"‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين أين هم‏؟‏ قال‏:‏ في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم‏؟‏ قال في النار قلت‏:‏ يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال‏:‏ وربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ‏"‏ وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به، نعم صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين يقال‏:‏ الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ‏.‏

وأخرج الشيخان‏.‏ وأصحاب السنن‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ حدثني الصعب بن جثامة قلت‏:‏ يا رسول الله أنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال‏:‏ هم منهم‏.‏ وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام الدنيوية كالاسترقاق‏.‏

وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما أخرج الحكيم الترمذي في «النوادر» عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغاراً فوضع رأسه ساعة ثم قال‏:‏ أين السائل‏؟‏ فقال‏:‏ هذا أنذا يا رسول الله فقال‏:‏ إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبقى غيرهم عجوا فقالوا‏:‏ اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئاً فأرسل إليهم ملكاً والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال‏:‏ إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن الله تعالى يأمركم أن تفتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال‏:‏ إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا‏:‏ ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم ألقوا في النار‏.‏

وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي‏.‏

ومنها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا‏:‏ يا رسول الله وأولاد المشركين قال‏:‏ وأولاد المشركين رواه البخاري في «صحيحه»، ومنها ما أخرجه الحكيم الترمذي أيضاً في «النوادر»‏.‏ وابن عبد البر عن أنس قال‏:‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال‏:‏ هم خدام أهل الجنة‏.‏

ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعد من لا يعتد به فإنه توقف فيهم لحديث عائشة توفى صبي من الأنصار فقلت‏:‏ طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم‏.‏ وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله‏:‏ اعطه إني لأراه مؤمناً قال أو مسلماً الحديث، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم ‏"‏ إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال القاضي‏:‏ دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ‏}‏ بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحداً بنوع ما من العذاب دنيوياً كان أو أخروياً على فعل شيء أو ترك شيء أصلياً كان أو فرعياً ‏{‏حتى نَبْعَثَ‏}‏ إليه ‏{‏رَسُولاً‏}‏ يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع أو حتى نبعث رسولاً كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثاً إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى منا لخلاف، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقاً كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجب من الفسق والعصيان، ألا يرى إلى قوم نوع عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها لتعذيب مطلقاً قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل الآية‏.‏

وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي‏.‏ وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى، وأورد الأصفهاني في «شرح المحصول» على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أموراً، الأول أن المراد بالرسول فيها العقل، الثاني‏:‏ أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب‏.‏

الثالث‏:‏ أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب‏.‏ الرابع‏:‏ أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقاً بنفي المباشرة، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحداً ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به‏.‏

وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهراً يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه، وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزامياً كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلاً لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي‏.‏

وقد أشرنا إلى ذلك، نعم قال المراغي في «شرح منهاج الأصول» للقاضي‏:‏ لا حاجة إلى جعل الدليل إلزامياً بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضاً بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازماً للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم‏.‏

ورد ذلك أولاً بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقاً بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر، وأما ثانياً فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزاً ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى، وقيل‏:‏ نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقاً لأن جواز العفو لا ينافي جواز العقاب‏.‏ ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتاً قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه‏.‏

وفيه أن معنى ‏{‏مَا كُنَّا مُعَذّبِينَ‏}‏ ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا ظالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 209‏]‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا لاَعِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 7‏]‏ إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولاً‏.‏

وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل قال‏:‏ بيان الملازمة من وجوه، أحدها‏:‏ أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبياً من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فأما أن يجب بالشرع أو بالعقل فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعى أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل‏:‏ على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في «الأول‏:‏ ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان، وثانيها‏:‏ أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك، فنقول‏:‏ إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال‏.‏

وثالثها‏:‏ أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال‏:‏ إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وإن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال‏:‏ الوجوب حاصل بمجرد العقل، فإن قالوا‏:‏ ماهية الوجوب إنما تقرر بسبب حصول الذم، قلنا‏:‏ إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه‏.‏

وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقة كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيب بنفسه أو الدور أو التسلسل، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول‏:‏ الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول‏:‏ يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة، وقد صرح السيد السند في «شرح الموافق» بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وأن لم ينظر، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر بثبت الوجوب بأخبار وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوب به بالاخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكماً وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون الخ فليتأمل، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمراً أجنبياً عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالاتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز ليس إلا بالاتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز إما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك إنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر‏.‏

وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوها جميعاً لكنهم قالوا‏:‏ إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظراً صحيحاً وأوجبوا الايمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى روى عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لو لم يبعث الله تعالى رسولاً لوجوب على الخلق معرفته، وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجبب الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه ‏{‏إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ حيث قال ذلك ولم يقل أوحى إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى لِلَّهِ *شَكٌّ فَاطِرِ السموات والارض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ الآية وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏ الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلهاً آخر بعدما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبراً عن أهل النار ‏{‏وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏ حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل‏.‏

وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججاً إلا باستدلال عقلي، وبأن المعجزة بعد الدعوة لا تعرف إلا بدليل عقلي وآيات الأنفس والآفاق أدل على الصانع من دلالة المعجزة على أنها من الله تعالى فلما كان بالعقل كفاية معرفة المعجزة كان به كفاية معرفة الله تعالى من طريق الأولى، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم‏:‏ لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لاخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول‏:‏ حمل الرسول على العقل، والثاني‏:‏ تخصيص العموم بأن يقال المراد وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال‏:‏ والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ماينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه‏.‏

وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم ‏{‏أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ موسى بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏ ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه بأنه وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه‏.‏

وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب أهل الفترة بترك الايمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلاً إليهم ولا أدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في «شرح مسلم» فقال‏:‏ إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام‏.‏ والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الايمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسول وإن لم يكن مرسلاً إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافاً للأبي في زعمه ذلك، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسول مرسلاً إليهم وليس فليس‏.‏

وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه‏:‏ إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضاً عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهاً ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الايمان هل يجب بمجرد العقل أو لا بد من انضمام النقل، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالايمان بعد وجود دعوة أحد من الرسول وإن لم يكن رسولاً إليه، وبالغ بعضهم فـ ياعتماد ذلك حتى قال‏:‏ فمن بلغته دعوة أحد من الرسول عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه‏.‏

والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة‏.‏ وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه، وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من أتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق إشكال أصلاً، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقاً بما أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»‏.‏ والطبراني‏.‏ وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً فيقول الممسوخ عقلاً‏:‏ يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة‏:‏ يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيراً‏:‏ يا رب لو آتيتني عمراً ما كان من آتيته عمراً بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى‏:‏ فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئاً فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء فيرجعون سراعاً ويقولون‏:‏ يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا نار ضميهم فتأخذهم النار ‏"‏ وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب‏.‏

فقد أخرج أحمد‏.‏ وابن راهويه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول‏:‏ رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً وأما الأحمق فيقول‏:‏ رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول‏:‏ رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً وأما الذي مات في الفترة فيقول‏:‏ رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها سحب إليها»‏.‏ وأخرج قاسم بن أصبغ‏.‏ والبزار‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم‏:‏ أبرزي ويقول لهم‏:‏ إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم‏:‏ ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء‏:‏ يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى‏:‏ قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار» إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة‏:‏ إنها وردت من عدة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولاً ولاكتفى به‏.‏ وقيل في جوابه‏:‏ لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعير والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج إلا تدل على اللطيف الخبير‏.‏

وأيضاً إن الله تعالى لم يدعنا ورسولاً من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية‏.‏

وقوله تعالى خبراً عن قول الخزنة لأهل النار‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏ توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الأخر ليس بحجة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا ‏{‏لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 131‏]‏ محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلاً مميزاً متمكناً من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل‏:‏ بوجوده في أمريقا وهي المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوا رسول أصلاً، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر، وأما الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي‏.‏ الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف، صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلاً فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلى الله عليه وسلم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولاً، قالوا‏:‏ واتغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً‏}‏ بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة، وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلاً إذ لا يقارنها الجزاء الآتي، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها ‏{‏مُتْرَفِيهَا‏}‏ متنعميها وجباريها وملوكها، وخصم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم بأتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد، ويدل على تقدير الطاعة أن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ فيكون نحو أمرته فأساء إلى أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق، والنقل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر‏.‏

‏{‏فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى، وقيل‏:‏ الأمر استعارة للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا نقض بنحو قولهم‏:‏ أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافياً للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع‏.‏

واعترض بأنه لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبان قرينة ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر؛ ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى، وأجاب في «الكشف» عن ذلك فقال‏:‏ الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذٍ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلاً بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة، وفيه قول بسلامة الأمير ونظير بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدته مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب‏.‏

وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ بمعنى كثرنا واختاره الفارسي، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما أخرجه أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة في مسنديهما‏.‏ والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت، وقيل‏:‏ إن المكسور يكون متعدياً أيضاً وأنه قرأ به الحسن‏.‏ ويحيى بن يعمر‏.‏ وعكرمة، وحكى ذلك النحاس‏.‏ وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل، وفي «الكشف» أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه‏:‏ ما عول هذا القائل الأعلى ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضاً كما في الآية كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهيه، وقيل‏:‏ أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مأزورات غير مأجورات ‏"‏ حيث لم يقل موزورات‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

وابن أبي إسحاق‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وعيسى بن عمرو‏.‏ وعبد الله بن أبي زيد‏.‏ والكلبي ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبي العالية‏.‏ وابن هرمز‏.‏ وعاصم‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبي عمرو‏.‏ ونافع وهو اختيار يعقوب، ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ وأبو عثمان النهدي، والسدي‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبو العالية ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ بالتشديد، وروي ذلك أيضاً عن علي‏.‏ والحسن‏.‏ والباقر رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وعاصم‏.‏ وأبي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضاً، وقيل‏:‏ بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر بالضم إلحاقاً له بالسجايا أي صار أميراً والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكاً أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضاً خلافاً للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْهَا القول‏}‏ أي كلمة العذاب السابق بحلوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعاً فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل‏:‏ المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية، وقيل‏:‏ هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب‏:‏ قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث» هذا والظاهر أن ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداءً فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداءً من غير استحقاق الإضرار كالإضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب عنه بعضهم بأنه في الآية تقديماً وتأخيراً والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ وآخرون بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ الخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73، 74‏]‏ وقول الهذلي وهو آخر قصيدة‏:‏

حتى إذا اسلكوهم في قتائدة *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا

وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر‏.‏